0

 

‏لملم ذكرياته منكّسا رأسه المثخن بالفقد ،ثمّ رنا بخياله هناك حيث الشمس ، تتقاذفه أمواج الشّجن حدّ الغرق.تذكّر نعش والده العائم يوم لفظه البحر ذات حلم ومغامرة .تذكّر دموع والدته وصراخ أخيه الرضيع عندما قرصه الجوع ولم يجد بثدي أمه الهزيل سوى قطرات حليب ممزوجة بملوحة المرارة.بعد موت والده المبلّل ، تشابهت أيامه كأسنان المشط . يهيم على وجهه ، يجوب الطرقات بعيون زائغة وأقدام مشقّقة باحثا عن لقمة عيش تسدّ رمق أهله .عارضا بضاعته الهزيلة . بضع علب مناديل ورقية وعلكة منسّمة بالريحان . يبحث عن بعض الدفء في عيون المارة او أصحاب السيارات عند كلّ إشارة مرور . لم يكن يعرف انه غير مرئي ، فنادرا ما تنتبه إليه عيون الرحمة . هذا الصباح خرج باكرا ، متسلّلا حتى لا يصفعه جوع أخيه الصغير . سمع والدته عند الفجر تصلي وتدعو الله بحرقة أن ينبت لرضيعها أسنانًا حتى تطعمه بعضا من الخبز .كان سيصرخ لها ان تستجدي الله أكثر حتى ينبت له شوارب لربما أصبح حمله الثقيل أخفّ.بلع صوته وتسلل خارجا.بعدما تعب من الجري وراء السيارات واستعطاف المارة ، دلف الى شارع رحب ثم عرج على زقاق متفرع منه وعند الزاوية جلس القرفصاء يعدّ مناديله الورقية وبضع دريهمات . وبين الفينة والأخرى يتطلع الى البناية الفخمة التي تحجب الرؤيا . فيما داخل الأسوار الشاهقة، والقاعة الفسيحة يلمحه واقفا كما المارد منتفخ الأوداج ، فاردا عضلاته كالطاووس. وبثقة عظيمة يسترسل بصوت مرتفع أراده جهوريا ليثير إعجاب النائبة الجميلة بالحزب المعارض. استرسل في جوابه بلغة الضاد ومفردات دسمة. ‏‎وبينما هو مستغرق في عرضه ضجّت قاعة البرلمان بالضحك ، ارتفع صوته أعلى، ازدادت الهمهمات والضحكات . إلى أن أوقفه رئيس الجلسة: ‏‎- سيدي أنت لا تجيب على السؤال الذي طرحته النائبة . ‏‎- ساد القاعة صمت غريب ، بتوجس كان كل واحد يستخرج من جيب سترته المبهرجةورقًا مطويًا بعناية ينظر فيه بدهشة. . ‏‎ أنقذهم الرئيس معلنا رفع الجلسة ..خرج لا يلوي على شيء وهو يعيد السؤال برأسه حديث عن التنمية والهدر المدرسي و ترشيد النّفقات. كلمات طنانة لا يفقهها. تمنّى لو رجعت عقارب الساعة إلى الوراء لربما اكتفى بمقعده بالجماعة القروية او بالجهة هناك حيث بامكانه ان يصول ويجول بعيدا عن الضوء . ظن ان مقعده بالبرلمان سيمنحه حصانة تضمن له راحة البال . وهاهو قد تعرض لاحراج كبير خصوصا امام معذبته الجميلة . ركب سيارته الفارهة وانطلق باقصى سرعة عند زاوية الشارع لمح الطفل الصغير على قارعة الطريق وبيده المناديل .توقفت السيارة ومن بين دخان سيجاره الكوبي سأله: بكم تبيع علبة المناديل بني؟ - رمقه الطفل بابتسامة متواطئة مع حزنه الدفين وقال بصوت خافت :أكتفي بقلم رصاص سيدي ، أريد ان ارسم شوارب رجل قد أتمكن من التملّص من قبضة العوز .منذ ان استبدلت مدرستي برصيف الشارع وانا مكبل بخيوط القهر . اريد قلم رصاص لأغزّ به قدري ولأرسم ملامح الفرح عندما تمطر الغيوم أماني وتغسل كل الوحل والقلق وقد أحضن محفظة أضاعت الطريق إليّ. - - ناولني علبة مناديل فلا وقت لديّ .. - - نعم سيدي، وقتك من ذهب ووقتي من خشب لاروح فيه. كلّما تآكل ،تفسّخ زمني وسقطت أحلامي في فوهة اللاشيء وجحيم فراغ مدمّر . عجزي لامتناهي أمام جوع أخي الصغير وكل ألوان قوس قزح .. - نظر إليه الغريب ببلاهة وهو يبتعد بسيارته الكبيرة مخلفا فقاعات من دخان أسود وقطرات عرقه تتصبب على جبينه الحالك بينما طأطأ الطفل رأسه المثقل بالهموم وصورة التمساح تسكن نظراته التائهة ..

إرسال تعليق

 
الى الاعلى